الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وهنا أسرار لا يمكن كشفها، لكن من تدبّر ما اومأت إليه واطّلع على مقامه وأصله، عرف سرّ ظهور صور العالم بأسرها، وسرّ أرواحه والنشآت الدنياويّة والأخرويّة والبرزخيّة وغيرها، وعرف ما تنتشي من الحركات والأفعال والأحوال، من كلّ متحرّك وفاعل ذي حال، ومن كلّ كون وفساد واقع في العالم، وما هو المراد بالقصد الأوّل من المجموع وفيه، وما هو المراد بالتبعيّة وبالقصد الثاني، وما هو شرط فحسب من وجه واحد، مراد باعتبار واحد، وما هو شرط في مرتبة، وتبع وهو بعينه مراد ومتبوع في مرتبة أخرى، وحكم الوقت والحال والمرتبة والموطن في مجموع ما ذكر من حيث التقيّد بالموطن والوقت وغيرهما، وكيف تكون هذه الأمور أيضا تارة في مرتبة المتبوعيّة والمشروطيّة، وأخرى في مرتبة الشرطيّة والتبعيّة، وحكم الوقت والحال. وما ذكرنا بالنسبة إلى من يتعيّن بها وبحسبها وبالنسبة إلى من تتعيّن به، وليس شيء مرادا في كلّ مرتبة بالقصد الأوّل غير الإنسان الكامل في دوره وعصره. ومن الأشياء ما هي مرادة بقصد أوّل وثان في زمان واحد باعتبارين، وما المرتبة التي تتضمّن هذه التفاصيل قبل ظهور الإنسان الكامل، وهل يصحّ ذلك أم لا؟ ويعرف سرّ الدوام والحياة والبقاء والإبقاء، وسرّ الزوال والموت والفناء والإفناء، وغير ذلك من العلوم التي يتعذّر تفصيلها، وتفصيل ترجمتها مع تعذّر تسمية بعضها بأحقّ أسمائها لما في ذلك من الأخطار. وفيما ذكرنا غنية للمستبصرين وتذكرة للمشاركين وعبرة للمعتبرين وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ ويَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.لسان الظاهر:الْعالَمِينَ التفسير: العالمين جمع عالم، والعالم مأخوذ من العلامة، وهو عبارة عن كلّ ما سوى اللّه.ولمّا وردت هذه السورة من حضرة الجمع ومتضمّنة سرّه، وذكر الاسم الربّ فيها ذكرا مضافا إلى كلّ ما سوى اللّه تنبيها على عموم حكمه الذي كشفت لك بعض أسراره فإنّ إضافات هذا الاسم كثيرة وهذا أعمّها، وأخصّ إضافاته المتضمّن لهذا العموم إضافته إلى الإنسان الجامع الكامل سيّدنا محمد صلّى اللّه عليه وآله، كقوله تعالى: {فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ} وكقوله أيضا: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ} وكقوله: {وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى} فإنّه لمّا كان صلّى اللّه عليه وآله عبد اللّه كما سمّاه اللّه لكماله وجمعيّته وكذا كلّ كامل كانت إضافته إلى الاسم الربّ بعد ذلك محمولة على أعمّ أحكام الربوبيّة وأكملها وأجمعها، وما سوى هاتين الإضافتين فمراتب تفصيليّة جزئيّة تتعيّن فيما بينهما.لسان الباطن:وإذا عرفت هذه، فنقول في شرح العالم بلسان الباطن ثم بما بعده: اعلم أنّ الحقّ سبحانه قد جعل كلّ فرد من أفراد العالم علامة ودليلا على أمر خاصّ مثله، فمن حيث وجوده المتعيّن هو علامة على نسبة من نسب الألوهيّة المسمّاة اسما الذي هذا الشيء الدالّ مظهر له، ومن حيث عينه الثابتة فهو دليل على عين ثابتة مثله، ومن حيث كونه عينا ثابتة متّصفة بوجود متعيّن هو علامة على مثله من الأعيان المتّصفة بالوجود.فالأجزاء من حيث هي أجزاء علامة على أجزاء مثلها، ومن حيث مجموعها وما يتضمّنه كلّ جزء من المعنى الكلّي هي علامة على الأمر الكلّي الجامع لها والوجود المطلق الذي يتعيّن منه وجودها.وجعل أيضا مجموع العالم الكبير من حيث ظاهره علامة ودليلا على روحه ومعناه، وجعل جملة صور العالم وأرواحه علامة على الألوهيّة الجامعة للأسماء والنسب، وعلى مجموع العالم.وجعل الإنسان الكامل بمجموعه من حيث صورته وروحه ومعناه ومرتبته علامة تامّة ودليلا دالّا عليه سبحانه وتعالى دلالة كاملة.وكلّ ما عدا الحقّ والإنسان الكامل فليس كونه علامة على ما دلّ عليه شرطا ضروريا مطّرد الحكم، لا يمكن معرفة ذلك الشيء بدونه، بل ذلك بالنسبة إلى أكثر العالم والحكم الغالب، بخلاف الحقّ والإنسان الكامل فإنّه قد يعلم بكلّ منهما كلّ شيء، ولا يعلم أحدهما إلّا بالآخر، أو بنفسه.وموجب ما ذكرنا وسرّه هو أنّ الإنسان نسخة من كلّ شيء، ففي قوّته ومرتبته أن يدلّ على كلّ شيء بما فيه من ذلك الشيء، فقد يغني في الدلالة على كلّ شيء عن كلّ شيء.وهكذا الأمر في الجناب الإلهي فإنّ الحقّ محيط بكلّ شيء، فمن عرفه معرفة تامّة فقد يعرف حقيقة كلّ شيء بطريق التضمّن أو الالتزام.والأمر في سوى الحقّ والإنسان الكامل كما بيّنّا فإنّ من عباد اللّه من يكون مبدأ فتحه الحقّ، فيعرف الحقّ بالحقّ، فإذا تحقّق بمعرفته وشهوده، سرى حكم تلك المعرفة وذلك الشهود في مراتب وجوده، فيعلم كلّ شيء بالحقّ، حتى نفسه التي هي أقرب الأشياء نسبة إليه، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك من قبل.وإذا سبق العلم بشرطيّة بعض الأشياء، وأنّه يكون سببا في معرفة أمر ما لا محالة، تجلّى الحقّ سبحانه للعبد الذي حاله ما ذكرنا وأمثاله في مرتبة ذلك الشيء وعينه، فعرفوه من تلك الحيثيّة في تلك المرتبة، ثم عرفوا به ما توقّف معرفته على هذا الشرط، ولكن من حيث النسبة الإلهيّة المشار إليها، وارتفاع حكم النسب الكونيّة، وسريان حكم الوجه الخاصّ، فلم يعرفوه إذا إلّا بالحقّ كما بيّنّا ذلك في سرّ الطرق، فبعض التجلّيات علامة له على تجلّيات أخر أنزل منها مرتبة من حيث إنّ المعرّف يجب أن يكون أجلى من المعرّف ومتقدّما عليه، ولا خلاف في تفاوت التجلّيات عند المحقّقين من حيث القوابل، وبحسب تفاوت الأسماء والحضرات التي منها يكون التجلّي وفيها يظهر، وبعض مظاهر التجلّيات من كونه مظاهر يكون علامة على مظاهر أخرى، كما أنّ بعض التجلّيات والمظاهر يكون حجابا على تجلّيات ومظاهر وغيرها، مع أحديّة المتجلّي في الجميع، فافهم.فالتفاوت بالمراتب، والاطّلاع على المراتب بحسب العلم، ولحصول العلم أسباب كثيرة من العلامات والطرق وغيرهما يطول ذكرها.ثم أقول: وقد تحصل لبعض النفوس في بعض الأحيان عند هبوب النفحات الجوديّة الإلهيّة أحوال توجب لها الإعراض عمّا سوى الحقّ، والإقبال بوجوه قلوبها- بعد التفريغ التامّ- إلى حضرة غيب الذات، في أسرع من لمح البصر، فتدرك من الأسرار الإلهيّة والكونيّة ما شاء الحقّ، وقد تعرف تلك النفس هذه المراتب والتفاصيل، وقد لا تعرف، مع تحقّقها بما حصل لها من العلم المتعلّق بالحقّ أو بالكون، ممّا لم يكن له دليل ولا علامة غير الحقّ، بل كان الحقّ عين العلامة، كما أشرنا إلى ذلك من قبل، والعوالم كثيرة جدّا، وأمّهاتها هي الحضرات الوجوديّة التي عرّفتك ما هي.وأوّل العوالم المتعيّنة من العماء عالم المثال المطلق، ثم عالم التهييم، ثم عالم القلم واللوح، ثم عالم الطبيعة من حيث ظهور حكمها في الأجسام بحقيقتي الهيولى والجسم الكلّ ثم العرش هكذا على الترتيب إلى أن ينتهي الأمر إلى الإنسان في عالم الدنيا، ثم عالم البرزخ، ثم عالم الحشر، ثم عالم جهنّم، ثم عالم الجنان، ثم عالم الكثيب، ثم حضرة أحديّة الجمع والوجود، الذي هو ينبوع جميع العوالم، فافهم واللّه الهادي. اهـ.
|